الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
أجمعين ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحابته أفضل الصلاة وأتم التسليم ...
وبعد :
فإن الناظر بعين البصيرة إلى واقع الأمة الإسلامية وما تمر به من فتن
ومضلات يعلم مدى حاجة الأمة إلى الدعاة المخلصين والأئمة المهديين ؛ ومن
يرى أو يسمع عن الهزائم المتتالية والمصائب المتتابعة التي تمر بها الأمة
يعلم علما يقينيا أن هناك خللا وتقصيرا ، وثمة ثقب ينفذ منه الأعداء ، ويلج
منه أهل الفساد ؛ ذلك أن المصائب والفتن المتتابعة تولد لدى بعض الدعاة
خمولا وهزيمة نفسية ، كما أن تناقل مثل هذه الأخبار والحديث عنها يورث يأسا
وقنوطا عند بعضهم ؛ وها هنا مكمن الخلل وعين التقصير والنقص ؛ ولست أدعو
إلى التغافل عن هذه الفتن أو تركها ، بل الواجب معرفتها ومعرفة كيفية
محاربتها وصدها ، ويجب مع كل هذا بث روح الأمل بنصرة الدين وإحياء هذا
المفهوم وشحن النفس به ، خصوصا أنه قد سرى في بعض النفوس يأس قاتل من نصرة
الإسلام ، فتقاعسوا عن العمل وأصابهم قنوط من هذا كله حتى أصبح بعضهم يعد
الحديث عن نصرة الدين ضربا من المستحيل أو حديثا عن الخيال البعيد ، وربما
علل ذلك وبرهن له بمنطق من غاب عن وعيهم روح الإيمان ، فصاروا يحاكمون
الأمور إلى الأصول المادية البحتة ؛ وإن المتأمل في سيرة المصطفى صلى الله
عليه وسلم يرى حرصه الشديد على غرس هذا المفهوم في نفوس الصحابة ؛ ويتأكد
ذلك عندما تشتد الفتن عليهم ، وبتكالب عليهم أعداء الله من كل مكان ؛ روى
البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا
تدعو الله لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض
فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط
بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله
هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب
على غنمه ؛ ولكنكم تستعجلون " ( البخاري 7/126 ) ؛ ويتكرر مثل هذا الموقف ؛
ففي غزوة الأحزاب وعندما تكالب الأعداء على المسلمين من كل جانب يحيي صلى
الله عليه وسلم هذا المفهوم ويغرسه في نفوس أصحابه ، وذلك عندما اعترضت
صخرة للصحابة وهم يحفرون الخندق فضربها صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات
فتفتتت ، فقال إثر الضربة الأولى : " الله أكبر إعطيت مفاتح الشام والله
إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة " ، ثم ضربها ثانية فقال : " الله أكبر
أعطيت فارس ؛ والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض " ، ثم ضرب الثالثة ،
وقال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ؛ والله إني لأبسر قصر مدائن البيضاء
, ثم ضرب الثالثة , وقال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن , والله إني
لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة " ( رواه أحمد والنسائي بسند حسن ) وكان
موقف المؤمنين ما حكاه القرآن الكريم : " هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق
الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما " الأحزاب : 22 .
إن نفوس الصحابة كانت مشحونة بكثير من الآلام والمخاوف ، ويأتي مثل هذا الكلام ليكون بردا وسلاما عليها .
قال ابن القيم - رحمه الله - معلقا على قصة كعب بن مالك : " وفي استباق
صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشر كعبا دليل على حرص القوم على الخير ،
واستباقهم إليه ، وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا . ( زاد المعاد 2/585 ) .
وأي مسرة أعظم من المسرة بنصرة الدين ؟
إنك لتعجب أشد العجب عندما ترى بعض الدعاة يغفل عن مثل هذا المفهوم ، فتسري
في قلبه روح الهزيمة ؛ فتجده واضعا كفه على جبينه عندما يسمع خبر حدوث
فتنة هنا أو هناك معلنا انهزاميته وتراجعه الكامل ، وقد غفل عن سنة الله في
كونه : " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، إنهم لهم المنصورون ، وإن
جندنا لهم الغالبون " ( الصافات : 171-173 ) .
والله غالب على أمره