ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به ، لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله . وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام ، فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين ، ولا محقق من غيرهم من العلماء : وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك ، واعتمادهم عليه ، فليس بصواب ، بل قبيح جدا ، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به . فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام - في الرواة - ، وإن كان لا يعرف ضعفه ، لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا ، أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفا . والله أعلم .
المسألة الرابعة : في بيان أصناف الكاذبين في الحديث وحكمهم وقد نقحها القاضي عياض - رحمه الله - فقال : الكاذبون ضربان :
أحدهما : ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أنواع : منهم : من يضع عليه ما لم يقله أصلا ، إما ترافعا واستخفافا - أسباب الوضع في الحديث - كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج للدين وقارا . وإما حسبة - أسباب الوضع في الحديث - بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب ، وإما إغرابا وسمعة - أسباب الوضع في الحديث - كفسقة المحدثين ، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة - أسباب الوضع في الحديث - ومتعصبي المذاهب ، وإما اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه وطلب العذر فيما أتوه - أسباب الوضع في الحديث - . وقد تعين جماعة من كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال ، ومنهم من لا يضع متن الحديث ، ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا . ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ، ويتعمد ذلك إما للإغراب على غيره ، وإما لرفع الجهالة عن نفسه . ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ، ولقاء من لم يلق ، ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم . ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء كلهم كذابون متروكو الحديث وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه أو هو شاك فيه ، فلا يحدث عن هؤلاء ، ولا يقبل ما حدثوا به . ولو لم يقع منهم ما جاءوا به إلا مرة واحدة ; كشاهد الزور إذا تعمد ذلك سقطت شهادته . واختلف هل تقبل روايته في المستقبل إذا ظهرت توبته ؟ - الراوي الكذاب - قلت : المختار الأظهر قبول توبته كغيره من أنواع الفسق . وحجة من ردها أبدا وإن حسنت توبته التغليظ ، وتعظيم العقوبة في هذا الكذب ، والمبالغة في الزجر عنه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد .
قال القاضي :
والضرب الثاني : من لا يستجيز شيئا من هذا كله في الحديث ، ولكنه يكذب في حديث الناس ، قد عرف بذلك - راوي الحديث - ، فهذا أيضا لا تقبل روايته ولا شهادته ، وتنفعه التوبة ، ويرجع إلى القبول .
فأما من يندر منه القليل من الكذب ، ولم يعرف به - من رواة الحديث - ، فلا يقطع بجرحه بمثله لاحتمال الغلط عليه والوهم ، وإن اعترف بتعمد ذلك المرة الواحدة ، ما لم يضر به مسلما ، فلا يجرح بهذا ، وإن كانت معصية لندورها ، ولأنها لا تلحق بالكبائر الموبقات ، ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعات بعض الهنات . وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو من باب التعريض - راوي الحديث - ، أو الغلو في القول ; إذ ليس بكذب في الحقيقة ، وإن كان في صورة الكذب ، لأنه لا يدخل تحت حد - ص 109 - الكذب ، ولا يريد المتكلم به الإخبار عن ظاهر لفظه . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " وقد قال إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - : هذه أختي . هذا آخر كلام القاضي رحمه الله وقد أتقن هذا الفصل رحمه الله ورضي عنه والله أعلم .
قوله : ( لو ضربنا عن حكايته ) كذا هو في الأصول ضربنا وهو صحيح وإن كانت لغة قليلة قال الأزهري : يقال ضربت عن الأمر ، وأضربت عنه ، بمعنى كففت ، وأعرضت . والمشهور الذي قاله الأكثرون وأضربت بالألف .
وقوله : ( لكان رأيا متينا ) أي قويا .
وقوله : ( وإخمال ذكر قائله ) أي : إسقاطه . والخامل الساقط وهو بالخاء المعجمة .
وقوله : ( أجدى على الأنام ) هو بالجيم والأنام بالنون ومعناه أنفع للناس . هذا هو الصواب والصحيح . ووقع في كثير من الأصول أجدى عن الآثام بالثاء المثلثة ، وهذا وإن كان له وجه ; فالوجه هو الأول . ويقال في الأنام أيضا حكاه الزبيدي والواحدي وغيرهما .
قوله : ( وسوء رويته ) بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء ، أي : فكره .
- ص 111 - قوله : ( حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا ) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الصحيحة المعتمدة ( حتى ) بالتاء المثناة من فوق ثم المثناة من تحت . ووقع في بعض النسخ ( حين ) بالياء ثم بالنون وهو تصحيف .
قال مسلم - رحمه الله : ( فيقال لمخترع هذا القول : قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل ) هذا الذي قاله مسلم رحمه الله تنبيه على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع ، وهو وجوب العمل بخبر الواحد ; فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها ، وقد أطنب العلماء - رحمهم الله - في الاحتجاج لها وإيضاحها ، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف ، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه ، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي : رحمه الله ، وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه ونذكر هنا طرفا في بيان خبر الواحد والمذاهب فيه مختصرا .
قال العلماء : الخبر ضربان : متواتر وآحاد .
فالمتواتر ، ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي طرفاه والوسط ، ويخبرون عن حسي لا مظنون ويحصل العلم بقولهم . ثم المختار الذي عليه المحققون والأكثرون أن ذلك لا يضبط بعدد مخصوص ، ولا يشترط في المخبرين الإسلام ولا العدالة . وفيه مذاهب أخرى ضعيفة ، وتفريعات معروفة مستقصاة في كتب الأصول .
وأما خبر الواحد : فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر . واختلف في حكمه ; فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول : أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ، ويفيد الظن ولا يفيد - ص 112 - العلم - خبر الواحد - ، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل . وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر إلى أنه يجب العمل به ثم منهم من يقول : منع من العمل به دليل العقل . ومنهم من يقول : منع دليل الشرع . وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل . وقال من المعتزلة : لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين . وقال غيره . لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة . وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم . وقال بعضهم يوجب العلم الظاهر دون الباطن . وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد . وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في الفصول وهذه الأقاويل كلها سوى قول الجمهور باطلة ، وإبطال من قال لا حجة فيه ظاهر ; فلم تزل كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآحاد رسله يعمل بها ، ويلزمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العمل بذلك ، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم . ولم تزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة ، وقضائهم به ، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا ، ونقضهم به ما حكموا به خلافه ، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده واحتجاجهم بذلك على من خالفهم ، وانقياد المخالف لذلك . وهذا كله معروف لا شك في شيء منه . والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به ، فوجب المصير إليه .
وأما من قال يوجب العلم : فهو مكابر للحسن . وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك ، متطرق إليه ؟ والله أعلم .
قال مسلم - رحمه الله - حكاية عن مخالفه : ( والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ) هذا الذي قاله هو المعروف من مذاهب المحدثين وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء : وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء إلى جواز الاحتجاج بالمرسل - في الحديث - . وقد قدمنا في الفصول السابقة بيان أحكام المرسل واضحة ، وبسطناها بسطا شافيا ، وإن كان لفظه مختصرا وجيزا . والله أعلم .
قوله ( فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر ) يقال : عزب الشيء عني بفتح الزاي ويعزب بكسر الزاي وضمها لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع . والضم أشهر وأكثر . ومعناه : ذهب .
وقوله : ( أوقفت الخبر ) كذا هو في الأصول أوقفت وهي لغة قليلة . والفصيح المشهور وقفت بغير ألف .
( باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين ولم يكن فيهم مدلس )
حاصل هذا الباب أن مسلما - رحمه الله - ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على أن المعنعن ، وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس . ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال : لا تقوم الحجة بها ، ولا يحمل على الاتصال ، حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ، ولا يكفي إمكان تلاقيهما . قال مسلم : وهذا قول ساقط مخترع مستحدث ، لم يسبق قائله إليه ، ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وإن القول به بدعة باطلة وأطنب مسلم - رحمه الله - في الشناعة على قائله ، واحتج مسلم - رحمه الله - بكلام مختصره : أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي ، مع احتمال الإرسال ، وكذا إذا أمكن التلاقي . وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون ، وقالوا : هذا الذي صار إليه ضعيف ، والذي رده هو المختار الذي عليه أئمة هذا الفن : علي بن المديني ، والبخاري وغيرهما . وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا ; فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا ، وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي ; فاشترط طول الصحبة بينهما ، وزاد أبو عمرو الداني المقري ; فاشترط معرفته بالرواية عنه . ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما : أن المعنعن عند ثبوت التلاقي - بين رواة الحديث - إنما حمل على الاتصال ; لأن الظاهر ، ممن ليس بمدلس ، أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ، ثم الاستقراء يدل عليه . فإن عادتهم أنهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه ، إلا المدلس ، ولهذا رددنا رواية المدلس - بالعنعنة - . فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال ، والباب مبني على غلبة الظن ؟ فاكتفينا به . وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت - بين الراوي وشيخه - ; فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ، ويصير كالمجهول ; فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله . والله أعلم .
هذا حكم المعنعن من غير المدلس .
وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة . هذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول : أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال - ص 110 - الانقطاع ، وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ، ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء . والله أعلم . هذا حكم المعنعن .
أما إذا قال : حدثني فلان : أن فلانا قال - طرق تحمل الحديث - ، كقوله : حدثني الزهري : أن سعيد بن المسيب قال : كذا ، أو حدث بكذا ، أو نحوه : فالجمهور على أن لفظة أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم . وقال أحمد بن حنبل ، ويعقوب بن شيبة ، وأبو بكر : لا تحمل أن على الاتصال . وإن كانت عن للاتصال . والصحيح الأول ، وكذا قال ، وحدث ، وذكر ، وشبهها - طرق تحمل الحديث - ; فكله محمول على الاتصال والسماع .
- ص 113 - قوله : ( في ذكر هشام لما أحب أن يرويها مرسلا ) ضبطناه ( لما ) بفتح اللام وتشديد الميم ، ومرسلا بفتح السين ويجوز تخفيف ( لما ) وكسر سين مرسلا .
قوله : ( وينشط أحيانا ) هو بفتح الياء والشين أي يخف في أوقات .
قوله ( عن عائشة - رضي الله عنها - كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه ) يقال : ( حرمه ) بضم الحاء وكسرها لغتان . ومعناه لإحرامه قال القاضي عياض - رحمه الله - : قيدناه عن شيوخنا بالوجهين ، قال : وبالضم قيده الخطابي وخطأ الخطابي أصحاب الحديث في كسره . وقيده ثابت بالكسر وحكي عن المحدثين الضم ، وخطأهم فيه ، وقال : صوابه الكسر ، كما قال لحله . وفي هذا الحديث استحباب التطيب عند الإحرام . وقد اختلف فيه السلف والخلف ومذهب الشافعي وكثيرين استحبابه . ومذهب مالك في آخرين كراهيته ، وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى .
- ص 114 - قوله في الرواية الأخرى : ( عن عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ) فيه جمل من العلم ، منها أن أعضاء الحائض طاهرة ، وهذا مجمع عليه . ولا يصح ما حكي عن أبي يوسف من نجاسة يدها ، وفيه جواز ترجيل المعتكف شعره ، ونظره إلى امرأته ، ولمسها شيئا منه بغير شهوة منه - المعتكف - . واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الحائض لا تدخل المسجد ، وأن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد . ولا يظهر فيه دلالة لواحد منهما فإنه لا شك في كون هذا هو المحبوب وليس في الحديث أكثر من هذا .
فأما الاشتراط والتحريم في حقها : فليس فيه ، لكن لذلك دلائل أخر مقررة في كتب الفقه . واحتج القاضي عياض - رحمه الله - به على أن قليل الملامسة لا تنقض الوضوء ورد به على الشافعي . وهذا الاستدلال منه عجب وأي دلالة فيه لهذا وأين في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمس بشرة عائشة - رضي الله عنها - وكان على طهارة ، ثم صلى بها ؟ فقد لا يكون متوضئا . ولو كان فما فيه أنه : ما جدد طهارة ، ولأن الملموس لا ينتقض وضوءه على أحد قولي الشافعي ، ولأن لمس الشعر - هل ينقض الوضوء - لا ينقض عند الشافعي ، كذا نص في كتبه وليس في الحديث أكثر من مسها الشعر . والله أعلم .
قوله : ( وروى الزهري ، وصالح بن أبي حسان ) هكذا هو في الأصول ببلادنا ، وكذا ذكره القاضي عياض عن معظم الأصول ببلادهم . وذكر أبو علي الغساني أنه وجد في نسخة الرازي أحد رواتهم صالح بن كيسان . قال أبو علي : وهو وهم ، والصواب صالح بن أبي حسان . وقد ذكر هذا الحديث النسائي ، وغيره من طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي حسان عن أبي سلمة . قلت : قال الترمذي عن البخاري : صالح بن أبي حسان ثقة . وكذا وثقه غيره - وإنما ذكرت هذا لأنه ربما اشتبه بصالح بن حسان أبي الحرث البصري المديني ويقال : الأنصاري ، وهو في طبقة صالح ابن أبي حسان هذا ; فإنهما يرويان جميعا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ويروي عنهما جميعا ابن أبي ذئب . ولكن صالح بن حسان متفق على ضعفه ، وأقوالهم في ضعفه مشهورة ، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : أجمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج بصالح بن حسان هذا لسوء حفظه وقلة ضبطه . والله أعلم .
قوله : ( فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة : أخبرني أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز - ص 115 - أخبره أن عروة أخبره أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته ) هذه الرواية اجتمع فيها أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض : أولهم يحيى بن كثير وهذا من أطرف الطرف .
وأغرب لطائف الإسناد . ولهذا نظائر قليلة في الكتاب وغيره سيمر بك إن شاء الله تعالى ما تيسر منها . وقد جمعت جملة منها في أول شرح صحيح البخاري رحمه الله ، وقد تقدم التنبيه على هذا . وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى : وهو أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر ; فإن أبا سلمة من كبار التابعين ، وعمر بن عبد العزيز من أصاغرهم سنا وطبقة ; وإن كان من كبارهم علما وقدرا ودينا وورعا وزهدا وغير ذلك . واسم أبي سلمة هذا عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف هذا هو المشهور . وقيل : اسمه إسماعيل . وقال عمرو بن علي : لا يعرف اسمه . وقال أحمد بن حنبل : كنيته هي اسمه . حكى هذه الأقوال فيه الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي - رحمه الله - .
وأبو سلمة هذا من أجل التابعين ، ومن أفقههم . وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال فيهم .
وأما ( يحيى بن أبي كثير ) فتابعي صغير ، كنيته أبو نصر ، رأى أنس بن مالك ، وسمع السائب بن يزيد ، وكان جليل القدر . واسم أبي كثير صالح ، وقيل : سيار وقيل : نشيط ، وقيل : دينار .
قوله : ( لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله ) هو بقاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت أي مقتضاه .
قوله : ( إذا كان ممن عرف بالتدليس ) قد قدمنا بيان التدليس في الفصول السابقة فلا حاجة إلى إعادته .
قوله : ( فما ابتغي ذلك من غير مدلس ) هكذا وقع في أكثر الأصول ( فما ابتغي ) بضم التاء وكسر الغين على ما لم يسم فاعله . وفي بعضها : ( ابتغى ) بفتح التاء والغين وفي بعض الأصول المحققة : ( فمن ابتغى ) ولكل واحد وجه .
- ص 116 - قوله : ( فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري وعن كل واحد منهما حديثا يسنده ) أما حديثه عن أبي مسعود : فهو حديث نفقة الرجل على أهله ، وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
وأما حديثه عن حذيفة : فقوله : أخبرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن الحديث أخرجه مسلم .
وأما ( أبو مسعود ) فاسمه عقبة بن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري ، قال الجمهور : سكن بدرا ولم يشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الزهري ، والحكم ، ومحمد بن إسحاق التابعيون ، والبخاري : شهدها .
وأما قوله : ( وعن كل واحد ) فكذا هو في الأصول ( وعن ) بالواو والوجه حذفها فإنها تغير المعنى .
قوله : ( وهي في زعم من حكينا قوله واهية ) هو بفتح الزاي وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورة . ولو قال : ضعيفة بدل واهية لكان أحسن ; فإن هذا القائل لا يدعي أنها واهية شديدة الضعف متناهية فيه ، كما هو معنى واهية ، بل يقتصر على أنها ضعيفة لا تقوم بها الحجة .
- ص 117 - قوله : ( وهذا أبو عثمان النهدي ، وأبو رافع الصائغ ، وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا ، ونقلا عنهما الأخبار ، حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما ، قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما ( أبو عثمان النهدي ) فاسمه عبد الرحمن بن مل وتقدم بيانه .
وأما ( أبو رافع ) : فاسمه نفيع المدني ، قال ثابت : لما أعتق أبو رافع بكى ، فقيل له : ما يبكيك ، فقال : كان لي أجران فذهب أحدهما .
وأما قوله : ( أدرك الجاهلية ) فمعناه : كانا رجلين قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والجاهلية ما قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سموا بذلك لكثرة جهالاتهم .
وقوله : ( من البدريين هلم جرا ) قال القاضي عياض : ليس هذا موضع استعمال ( هلم جرا ) لأنها إنما تستعمل فيما اتصل إلى زمان المتكلم بها ، وإنما أراد مسلم فمن بعدهم من الصحابة .
وقوله : ( جرا ) منون قال صاحب المطالع : قال ابن الأنباري : معنى هلم جرا سيروا وتمهلوا في سيركم وتثبتوا ، وهو من الجر ، وهو ترك النعم في سيرها ، فيستعمل فيما دووم عليه من الأعمال . قال ابن الأنباري : فانتصب ( جرا ) على المصدر ، أي : جروا جرا ، أو على الحال أو على التمييز .
وقوله : ( وذويهما ) فيه إضافة ذي إلى غير الأجناس والمعروف عند أهل العربية أنها لا تستعمل إلا مضافة إلى الأجناس كذي مال .
وقد جاء في الحديث وغيره من كلام العرب إضافة أحرف منها إلى المفردات كما في الحديث " وتصل ذا رحمك " وكقولهم : ذو يزن ، وذو نواس ، وأشباهها . قالوا : هذا كله مقدر فيه الانفصال ; فتقدير ذي رحمك : الذي له معك رحم .
وأما حديث أبي عثمان عن أبي فقوله : كان رجل لا أعلم أحدا أبعد بيتا من المسجد منه الحديث . وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعطاك الله ما احتسبت " خرجه مسلم .
وأما حديث أبي رافع عنه فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأخر فسافر عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوما ، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم ، ورواه جماعات من أصحاب المسانيد .
قوله : ( وأسند أبو عمرو الشيباني وأبو معمر عبد الله بن سخبرة كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين )
أما ( أبو عمرو الشيباني ) : فاسمه سعد بن إياس تقدم ذكره .
وأما ( سخبرة ) : فبسين مهملة مفتوحة ثم خاء معجمة ساكنة ثم موحدة مفتوحة .
وأما الحديثان اللذان رواهما الشيباني : فأحدهما حديث جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه أبدع بي والآخر جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة " أخرجهما مسلم ، وأسند أبو عمرو الشيباني أيضا عن أبي مسعود حديث " المستشار مؤتمن " رواه ابن ماجه ، وعبد بن حميد في مسنده .
وأما حديثا - ص 118 - أبي معمر فأحدهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة أخرجه مسلم . والآخر " لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع " رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . والله أعلم .
قال مسلم - رحمه الله - : ( وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قولها لما مات أبو سلمة قلت : غريب وفي أرض غربة بكاء يتحدث عنه أخرجه مسلم . واسم أم سلمة هند بنت أبي أمية ، واسمه حذيفة ، وقيل : سهيل بن المغيرة المخزومية ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث ، وقيل : اسمها رملة ، وليس بشيء .
قوله : ( وأسند قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود ثلاثة أخبار ) هي حديث " إن الإيمان هاهنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين " وحديث " إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد " وحديث لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان . أخرجها كلها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، واسم أبي حازم عبد عوف ، وقيل : عوف بن عبد الحارث البجلي صحابي .
قوله : ( وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قوله أمر أبو طلحة أم سليم اصنعي طعاما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم وقد تقدم اسم أبي ليلى ، وبيان الاختلاف فيه وبيان ابنه وابن ابنه .
قوله : ( وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين وعن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثاه عن عمران ; فأحدهما : في إسلام حصين والد عمران وفيه قوله كان عبد المطلب خيرا لقومك منك رواه عبد بن حميد في مسنده والنسائي في كتابه عمل اليوم والليلة بإسناديهما الصحيحين . والحديث الآخر " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله " رواه النسائي في سننه .
وأما حديثه عن أبي بكرة فهو " إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم " أخرجه مسلم وأشار إليه البخاري واسم أبي بكرة : نفيع بن الحارث بن كلدة بفتح الكاف واللام الثقفي . كني بأبي بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببكرة . وكان أبو بكرة ممن اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أحد من الفريقين .
وأما ( ربعي ) بكسر الراء ( وحراش ) بالحاء المهملة فتقدم بيانهما .
- ص 119 - قوله : ( وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثه فهو حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " أخرجه مسلم في كتاب الإيمان هكذا من رواية نافع بن جبير ، وقد أخرجه البخاري ومسلم أيضا من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري .
وأما ( أبو شريح ) فاسمه : خويلد بن عمرو ، وقيل : عبد الرحمن وقيل : عمرو بن خويلد ، وقيل : هانئ بن عمرو ، وقيل : كعب . ويقال فيه : أبو شريح الخزاعي والعدوي والكعبي .
قوله : ( وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ثلاثة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أما الحديث الأول : فمن صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفا
والثاني إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها أخرجهما معا البخاري ومسلم .
والثالث : إن أدنى أهل الجنة منزلة من صرف الله وجهه الحديث أخرجه مسلم .
وأما ( أبو سعيد الخدري ) فاسمه سعد بن مالك بن سنان ، منسوب إلى خدرة بن عوف بن الحرث بن الخزرج . توفي أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وستين ، وقيل : سنة أربع وسبعين ، وهو ابن أربع وسبعين .
وأما ( أبو عياش ) والد النعمان : فبالشين المعجمة . واسمه زيد بن الصامت ، وقيل : زيد بن النعمان ، وقيل : عبيد بن معاوية بن الصامت ، وقيل : عبد الرحمن .
قوله : ( وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث " الدين النصيحة " . وأما تميم الداري فكذا هو في مسلم ، واختلف فيه رواة الموطأ ففي رواية يحيى وابن بكير وغيرهما ( الديري ) بالياء ، وفي رواية القعنبي وابن القاسم وأكثرهم ( الداري ) بالألف ، واختلف العلماء في أنه إلى ما نسب ; فقال الجمهور : إلى جد من أجداده ، وهو الدار بن هانئ فإنه تميم بن أوس ابن خارجة بن سور بضم السين بن جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة بن ذراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم وهو مالك بن عدي .
وأما من قال : الديري فهو نسبة إلى دير كان تميم فيه قبل الإسلام وكان نصرانيا ، هكذا رواه أبو الحسن الرازي في كتابه مناقب الشافعي بإسناده الصحيح عن الشافعي أنه قال في النسبتين : ما ذكرناه . وعلى هذا أكثر العلماء . ومنهم من قال الداري بالألف إلى دارين وهو مكان عند البحرين وهو محط السفن ، كان يجلب إليه العطر من الهند ، ولذلك قيل للعطار داري . ومنهم من جعله بالياء نسبة إلى قبيلة أيضا . وهو بعيد شاذ . حكاه والذي قبله صاحب المطالع ، قال وصوب بعضهم الديري قلت : وكلاهما صواب ، فنسب إلى القبيلة بالألف وإلى الدير بالياء ; لاجتماع الوصفين فيه . قال صاحب المطالع : وليس في الصحيحين والموطأ داري ولا ديري ديري إلا تميم . وكنية تميم أبو رقية ، أسلم - ص 120 - سنة تسع وكان بالمدينة ، ثم انتقل إلى الشام فنزل ببيت المقدس ، وقد روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة الجساسة ، وهذه منقبة شريفة لتميم - مناقب الصحابة - ، ويدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر . والله أعلم .
قوله : ( وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث المحاقلة أخرجه مسلم .
قوله : ( وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ) من هذه الأحاديث " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " أخرجه مسلم منفردا به عن البخاري قال أبو عبد الله الحميدي - رحمه الله - في آخر مسند أبي هريرة من الجمع بين الصحيحين : ليس لحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة في الصحيح غير هذا الحديث قال : وليس له عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة شيء . وهذا الذي قاله الحميدي صحيح . وربما اشتبه حميد بن عبد الرحمن الحميري هذا بحميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الراوي عن أبي هريرة أيضا . وقد رويا له في الصحيحين عن أبي هريرة أحاديث كثيرة ; فقد يقف من لا خبرة له على شيء منهما فينكر قول الحميدي توهما منه أن حميدا هذا هو ذاك وهو خطأ صريح ، وجهل قبيح ، وليس للحميري عن أبي هريرة أيضا في الكتب الثلاثة التي هي تمام أصول الإسلام الخمسة أعني : سنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي غير هذا الحديث .
قوله : ( كلاما خلفا ) بإسكان اللام وهو الساقط الفاسد .
قوله : ( وعليه التكلان ) هو بضم التاء وإسكان الكاف أي الاتكال . والله أعلم بالصواب . ولله الحمد والنعمة ، والفضل والمنة ، وبه التوفيق والعصمة .
- ص 121 - [ ( باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى )
( وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه ) ]
أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام ، وعمومهما ، وخصوصهما ، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا ؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا ؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه .
وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة .
قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق - رحمه الله - في كتابه معالم السنن : ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة .
فأما الزهري فقال : الإسلام الكلمة ، والإيمان العمل ، واحتج بالآية يعني قوله سبحانه وتعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد . واحتج بقوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين قال الخطابي : وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم ، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين . ورد الآخر منهما على المتقدم ، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين .
قال الخطابي : والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ، ولا يطلق ; وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ، ولا يكون مؤمنا في بعضها . والمؤمن مسلم في جميع - ص 122 - الأحوال ; فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات ، واعتدل القول فيها ، ولم يختلف شيء منها .
وأصل الإيمان : التصديق ، وأصل الإسلام : الاستسلام والانقياد ; فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر ، غير منقاد في الباطن ، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقال الخطابي أيضا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون شعبة في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى ، والاسم يتعلق ببعضها ، كما يتعلق بكلها ، والحقيقة تقتضي جميع شعبه ، وتستوفي جملة أجزائه ; كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء ، والاسم يتعلق ببعضها ، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها . ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : الحياء شعبة من الإيمان . وفيه : إثبات التفاضل في الإيمان ، وتباين المؤمنين في درجاته . هذا آخر كلام الخطابي . وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي - رحمه الله - في حديث سؤال جبريل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام وجوابه ، قال : جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال ، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد ; وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام ; بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا ; يدل عليه قوله - سبحانه وتعالى - إن الدين عند الله الإسلام ورضيت لكم الإسلام دينا و ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل . هذا كلام البغوي .
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي - رحمه الله - في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم : الإيمان في اللغة هو التصديق فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص ; لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى . والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان . وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص . وهو مذهب أهل السنة ، قال : فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا ؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق . هذا آخر كلام صاحب التحرير .
وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري : مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والحجة على زيادته ونقصانه : ما أورده البخاري من الآيات ، يعني قوله عز وجل : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، وقوله تعالى : وزدناهم هدى ، وقوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقوله - ص 123 - تعالى : والذين اهتدوا زادهم وقوله تعالى : ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقوله تعالى : أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وقوله تعالى : فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى : وما زادهم إلا إيمانا وتسليما قال ابن بطال : فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص ، قال : فإن قيل : الإيمان في اللغة التصديق ، فالجواب : أن التصديق يكمل بالطاعات كلها ، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل ، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص ، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان ، ومتى زادت زاد الإيمان كمالا . هذا توسط القول في الإيمان . وأما التصديق بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فلا ينقص ولذلك توقف مالك - رحمه الله - في بعض الروايات عن القول بالنقصان ; إذ لا يجوز نقصان التصديق ; لأنه إذا نقص صار شكا ، وخرج عن اسم الإيمان .
وقال بعضهم : إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب ، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة . قال عبد الرزاق : سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس ، وعبيد الله بن عمر ، والأوزاعي ، ومعمر بن راشد وابن جريج ، وسفيان بن عيينة ، يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعبد الله بن المبارك . فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه ، لا يستحق اسم مؤمن . ولو عرفه ، وعمل ، وجحد بلسانه ، وكذب ما عرف من التوحيد ، لا يستحق اسم مؤمن ، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ولم يعمل بالفرائض ، لا يسمى مؤمنا بالإطلاق وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى ; لقوله عز وجل : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا فأخبرنا سبحانه وتعالى : أن المؤمن من كانت هذه صفته .
وقال ابن بطال في باب من قال الإيمان هو العمل : فإن قيل : قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق قيل : التصديق هو أول منازل الإيمان ، ويوجب للمصدق الدخول فيه ، ولا يوجب له استكمال منازله ، ولا يسمى مؤمنا مطلقا . هذا مذهب جماعة أهل السنة : أن الإيمان قول وعمل .
قال أبو عبيد : وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم .
قال ابن بطال : وهذا المعنى أراد البخاري - رحمه الله - إثباته في - ص 124 - كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها . فقال : باب أمور الإيمان ، وباب الصلاة من الإيمان ، وباب الزكاة من الإيمان ، وباب الجهاد من الإيمان ، وسائر أبوابه ، وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم : إن الإيمان قول بلا عمل وتبيين غلطهم ، وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة ثم قال ابن بطال في باب آخر : قال المهلب : الإسلام على الحقيقة هو الإيمان الذي هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره .
وقالت الكرامية وبعض المرجئة : الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب ، ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين ، قال الله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله . . . إلى قوله تعالى : وتزهق أنفسهم وهم كافرون هذا آخر كلام ابن بطال .
وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام - تعريفه - : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، والإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : هذا بيان لأصل الإيمان ، وهو التصديق الباطن ، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر ، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين ، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة ، والحج ، والصوم ، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله ، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لأنها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ، ومقويات ومتممات وحافظات له ، ولهذا فسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم . ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة ، أو بدل فريضة ، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد ; ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ، ويتناول أصل الطاعات ; فإن ذلك كله استسلام . قال : فخرج مما ذكرناه وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان ، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . قال : وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون . وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ، فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف ، وأئمة الخلف ، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص . وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين .
وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه ، وقالوا : متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا قال المحققون من أصحابنا المتكلمين : نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص . والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ، وهي الأعمال ونقصانها قالوا : وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف ، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون ، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر - والله أعلم - أن نفس - ص 125 - التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض ، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال . وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن إنكاره .
ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لا يساويه تصديق آحاد الناس ; ولهذا قال البخاري في صحيحه : قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل . والله أعلم .
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق . ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر . قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم أجمعوا على أن المراد صلاتكم .
وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات والله أعلم .
واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ، ونطق بالشهادتين ، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا إلا إذا عجز عن النطق - بالشهادتين - لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا . أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلا بأن يتبرأ ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا ، وليس بشيء : أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلا الله ، ولم يقل : محمد رسول الله : فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما . ومن أصحابنا من قال : يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى ، فإن أبى جعل مرتدا . ويحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين ، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم .
أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا ، فمن جعله مسلما قال : كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما . أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا : الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الإقرار ، وهذا الوجه هو الحق ولا يظهر للآخر وجه وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم .
واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله : ( أنا مؤمن ) فقالت طائفة : لا يقول أنا مؤمن مقتصرا عليه بل يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين ، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق وأنه لا يقول : ( إن شاء الله ) . وهذا هو المختار ، وقول - ص 126 - أهل التحقيق . وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين . والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال ، ومن قال : إن شاء الله فقالوا فيه : هو إما للتبرك ، وإما لاعتبار العاقبة وما قدر الله تعالى ; فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه ، والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا ، منهم من قال : يقال : هو كافر ، ولا يقول إن شاء الله ، ومنهم من قال : هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم فيقال على قول التقييد : هو كافر إن شاء الله نظرا إلى الخاتمة وأنها مجهولة ، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم .
واعلم أن مذهب أهل الحق : أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع ، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك ; فإن استمر حكم بكفره ، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة . فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه ولكثرة تكررها وتردادها في الأحاديث ، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها والله أعلم بالصواب . وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة .
قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه : ( حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث ) اعلم أن مسلما - رحمه الله - سلك في هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام في نهاية من الحسن مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه ، وذلك يظهر في الإسناد تارة وفي المتن تارة وفيهما تارة ، فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه ، وينشرح لها صدره ، وتنشطه للاشتغال بهذا العلم . واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد . وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني ، فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد ، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك ، ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى . فإذا تقرر ما قلته ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته ، فمن ذلك أنه قال أولا : حدثني
المسألة الرابعة : في بيان أصناف الكاذبين في الحديث وحكمهم وقد نقحها القاضي عياض - رحمه الله - فقال : الكاذبون ضربان :
أحدهما : ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أنواع : منهم : من يضع عليه ما لم يقله أصلا ، إما ترافعا واستخفافا - أسباب الوضع في الحديث - كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج للدين وقارا . وإما حسبة - أسباب الوضع في الحديث - بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب ، وإما إغرابا وسمعة - أسباب الوضع في الحديث - كفسقة المحدثين ، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة - أسباب الوضع في الحديث - ومتعصبي المذاهب ، وإما اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه وطلب العذر فيما أتوه - أسباب الوضع في الحديث - . وقد تعين جماعة من كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال ، ومنهم من لا يضع متن الحديث ، ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا . ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ، ويتعمد ذلك إما للإغراب على غيره ، وإما لرفع الجهالة عن نفسه . ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ، ولقاء من لم يلق ، ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم . ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء كلهم كذابون متروكو الحديث وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه أو هو شاك فيه ، فلا يحدث عن هؤلاء ، ولا يقبل ما حدثوا به . ولو لم يقع منهم ما جاءوا به إلا مرة واحدة ; كشاهد الزور إذا تعمد ذلك سقطت شهادته . واختلف هل تقبل روايته في المستقبل إذا ظهرت توبته ؟ - الراوي الكذاب - قلت : المختار الأظهر قبول توبته كغيره من أنواع الفسق . وحجة من ردها أبدا وإن حسنت توبته التغليظ ، وتعظيم العقوبة في هذا الكذب ، والمبالغة في الزجر عنه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد .
قال القاضي :
والضرب الثاني : من لا يستجيز شيئا من هذا كله في الحديث ، ولكنه يكذب في حديث الناس ، قد عرف بذلك - راوي الحديث - ، فهذا أيضا لا تقبل روايته ولا شهادته ، وتنفعه التوبة ، ويرجع إلى القبول .
فأما من يندر منه القليل من الكذب ، ولم يعرف به - من رواة الحديث - ، فلا يقطع بجرحه بمثله لاحتمال الغلط عليه والوهم ، وإن اعترف بتعمد ذلك المرة الواحدة ، ما لم يضر به مسلما ، فلا يجرح بهذا ، وإن كانت معصية لندورها ، ولأنها لا تلحق بالكبائر الموبقات ، ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعات بعض الهنات . وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو من باب التعريض - راوي الحديث - ، أو الغلو في القول ; إذ ليس بكذب في الحقيقة ، وإن كان في صورة الكذب ، لأنه لا يدخل تحت حد - ص 109 - الكذب ، ولا يريد المتكلم به الإخبار عن ظاهر لفظه . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " وقد قال إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - : هذه أختي . هذا آخر كلام القاضي رحمه الله وقد أتقن هذا الفصل رحمه الله ورضي عنه والله أعلم .
قوله : ( لو ضربنا عن حكايته ) كذا هو في الأصول ضربنا وهو صحيح وإن كانت لغة قليلة قال الأزهري : يقال ضربت عن الأمر ، وأضربت عنه ، بمعنى كففت ، وأعرضت . والمشهور الذي قاله الأكثرون وأضربت بالألف .
وقوله : ( لكان رأيا متينا ) أي قويا .
وقوله : ( وإخمال ذكر قائله ) أي : إسقاطه . والخامل الساقط وهو بالخاء المعجمة .
وقوله : ( أجدى على الأنام ) هو بالجيم والأنام بالنون ومعناه أنفع للناس . هذا هو الصواب والصحيح . ووقع في كثير من الأصول أجدى عن الآثام بالثاء المثلثة ، وهذا وإن كان له وجه ; فالوجه هو الأول . ويقال في الأنام أيضا حكاه الزبيدي والواحدي وغيرهما .
قوله : ( وسوء رويته ) بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء ، أي : فكره .
- ص 111 - قوله : ( حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا ) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الصحيحة المعتمدة ( حتى ) بالتاء المثناة من فوق ثم المثناة من تحت . ووقع في بعض النسخ ( حين ) بالياء ثم بالنون وهو تصحيف .
قال مسلم - رحمه الله : ( فيقال لمخترع هذا القول : قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل ) هذا الذي قاله مسلم رحمه الله تنبيه على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع ، وهو وجوب العمل بخبر الواحد ; فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها ، وقد أطنب العلماء - رحمهم الله - في الاحتجاج لها وإيضاحها ، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف ، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه ، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي : رحمه الله ، وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه ونذكر هنا طرفا في بيان خبر الواحد والمذاهب فيه مختصرا .
قال العلماء : الخبر ضربان : متواتر وآحاد .
فالمتواتر ، ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي طرفاه والوسط ، ويخبرون عن حسي لا مظنون ويحصل العلم بقولهم . ثم المختار الذي عليه المحققون والأكثرون أن ذلك لا يضبط بعدد مخصوص ، ولا يشترط في المخبرين الإسلام ولا العدالة . وفيه مذاهب أخرى ضعيفة ، وتفريعات معروفة مستقصاة في كتب الأصول .
وأما خبر الواحد : فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر . واختلف في حكمه ; فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول : أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ، ويفيد الظن ولا يفيد - ص 112 - العلم - خبر الواحد - ، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل . وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر إلى أنه يجب العمل به ثم منهم من يقول : منع من العمل به دليل العقل . ومنهم من يقول : منع دليل الشرع . وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل . وقال من المعتزلة : لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين . وقال غيره . لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة . وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم . وقال بعضهم يوجب العلم الظاهر دون الباطن . وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد . وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في الفصول وهذه الأقاويل كلها سوى قول الجمهور باطلة ، وإبطال من قال لا حجة فيه ظاهر ; فلم تزل كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآحاد رسله يعمل بها ، ويلزمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العمل بذلك ، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم . ولم تزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة ، وقضائهم به ، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا ، ونقضهم به ما حكموا به خلافه ، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده واحتجاجهم بذلك على من خالفهم ، وانقياد المخالف لذلك . وهذا كله معروف لا شك في شيء منه . والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به ، فوجب المصير إليه .
وأما من قال يوجب العلم : فهو مكابر للحسن . وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك ، متطرق إليه ؟ والله أعلم .
قال مسلم - رحمه الله - حكاية عن مخالفه : ( والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ) هذا الذي قاله هو المعروف من مذاهب المحدثين وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء : وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء إلى جواز الاحتجاج بالمرسل - في الحديث - . وقد قدمنا في الفصول السابقة بيان أحكام المرسل واضحة ، وبسطناها بسطا شافيا ، وإن كان لفظه مختصرا وجيزا . والله أعلم .
قوله ( فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر ) يقال : عزب الشيء عني بفتح الزاي ويعزب بكسر الزاي وضمها لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع . والضم أشهر وأكثر . ومعناه : ذهب .
وقوله : ( أوقفت الخبر ) كذا هو في الأصول أوقفت وهي لغة قليلة . والفصيح المشهور وقفت بغير ألف .
( باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين ولم يكن فيهم مدلس )
حاصل هذا الباب أن مسلما - رحمه الله - ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على أن المعنعن ، وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس . ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال : لا تقوم الحجة بها ، ولا يحمل على الاتصال ، حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ، ولا يكفي إمكان تلاقيهما . قال مسلم : وهذا قول ساقط مخترع مستحدث ، لم يسبق قائله إليه ، ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وإن القول به بدعة باطلة وأطنب مسلم - رحمه الله - في الشناعة على قائله ، واحتج مسلم - رحمه الله - بكلام مختصره : أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي ، مع احتمال الإرسال ، وكذا إذا أمكن التلاقي . وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون ، وقالوا : هذا الذي صار إليه ضعيف ، والذي رده هو المختار الذي عليه أئمة هذا الفن : علي بن المديني ، والبخاري وغيرهما . وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا ; فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا ، وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي ; فاشترط طول الصحبة بينهما ، وزاد أبو عمرو الداني المقري ; فاشترط معرفته بالرواية عنه . ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما : أن المعنعن عند ثبوت التلاقي - بين رواة الحديث - إنما حمل على الاتصال ; لأن الظاهر ، ممن ليس بمدلس ، أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ، ثم الاستقراء يدل عليه . فإن عادتهم أنهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه ، إلا المدلس ، ولهذا رددنا رواية المدلس - بالعنعنة - . فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال ، والباب مبني على غلبة الظن ؟ فاكتفينا به . وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت - بين الراوي وشيخه - ; فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ، ويصير كالمجهول ; فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله . والله أعلم .
هذا حكم المعنعن من غير المدلس .
وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة . هذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول : أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال - ص 110 - الانقطاع ، وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ، ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء . والله أعلم . هذا حكم المعنعن .
أما إذا قال : حدثني فلان : أن فلانا قال - طرق تحمل الحديث - ، كقوله : حدثني الزهري : أن سعيد بن المسيب قال : كذا ، أو حدث بكذا ، أو نحوه : فالجمهور على أن لفظة أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم . وقال أحمد بن حنبل ، ويعقوب بن شيبة ، وأبو بكر : لا تحمل أن على الاتصال . وإن كانت عن للاتصال . والصحيح الأول ، وكذا قال ، وحدث ، وذكر ، وشبهها - طرق تحمل الحديث - ; فكله محمول على الاتصال والسماع .
- ص 113 - قوله : ( في ذكر هشام لما أحب أن يرويها مرسلا ) ضبطناه ( لما ) بفتح اللام وتشديد الميم ، ومرسلا بفتح السين ويجوز تخفيف ( لما ) وكسر سين مرسلا .
قوله : ( وينشط أحيانا ) هو بفتح الياء والشين أي يخف في أوقات .
قوله ( عن عائشة - رضي الله عنها - كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه ) يقال : ( حرمه ) بضم الحاء وكسرها لغتان . ومعناه لإحرامه قال القاضي عياض - رحمه الله - : قيدناه عن شيوخنا بالوجهين ، قال : وبالضم قيده الخطابي وخطأ الخطابي أصحاب الحديث في كسره . وقيده ثابت بالكسر وحكي عن المحدثين الضم ، وخطأهم فيه ، وقال : صوابه الكسر ، كما قال لحله . وفي هذا الحديث استحباب التطيب عند الإحرام . وقد اختلف فيه السلف والخلف ومذهب الشافعي وكثيرين استحبابه . ومذهب مالك في آخرين كراهيته ، وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى .
- ص 114 - قوله في الرواية الأخرى : ( عن عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ) فيه جمل من العلم ، منها أن أعضاء الحائض طاهرة ، وهذا مجمع عليه . ولا يصح ما حكي عن أبي يوسف من نجاسة يدها ، وفيه جواز ترجيل المعتكف شعره ، ونظره إلى امرأته ، ولمسها شيئا منه بغير شهوة منه - المعتكف - . واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الحائض لا تدخل المسجد ، وأن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد . ولا يظهر فيه دلالة لواحد منهما فإنه لا شك في كون هذا هو المحبوب وليس في الحديث أكثر من هذا .
فأما الاشتراط والتحريم في حقها : فليس فيه ، لكن لذلك دلائل أخر مقررة في كتب الفقه . واحتج القاضي عياض - رحمه الله - به على أن قليل الملامسة لا تنقض الوضوء ورد به على الشافعي . وهذا الاستدلال منه عجب وأي دلالة فيه لهذا وأين في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمس بشرة عائشة - رضي الله عنها - وكان على طهارة ، ثم صلى بها ؟ فقد لا يكون متوضئا . ولو كان فما فيه أنه : ما جدد طهارة ، ولأن الملموس لا ينتقض وضوءه على أحد قولي الشافعي ، ولأن لمس الشعر - هل ينقض الوضوء - لا ينقض عند الشافعي ، كذا نص في كتبه وليس في الحديث أكثر من مسها الشعر . والله أعلم .
قوله : ( وروى الزهري ، وصالح بن أبي حسان ) هكذا هو في الأصول ببلادنا ، وكذا ذكره القاضي عياض عن معظم الأصول ببلادهم . وذكر أبو علي الغساني أنه وجد في نسخة الرازي أحد رواتهم صالح بن كيسان . قال أبو علي : وهو وهم ، والصواب صالح بن أبي حسان . وقد ذكر هذا الحديث النسائي ، وغيره من طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي حسان عن أبي سلمة . قلت : قال الترمذي عن البخاري : صالح بن أبي حسان ثقة . وكذا وثقه غيره - وإنما ذكرت هذا لأنه ربما اشتبه بصالح بن حسان أبي الحرث البصري المديني ويقال : الأنصاري ، وهو في طبقة صالح ابن أبي حسان هذا ; فإنهما يرويان جميعا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ويروي عنهما جميعا ابن أبي ذئب . ولكن صالح بن حسان متفق على ضعفه ، وأقوالهم في ضعفه مشهورة ، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : أجمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج بصالح بن حسان هذا لسوء حفظه وقلة ضبطه . والله أعلم .
قوله : ( فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة : أخبرني أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز - ص 115 - أخبره أن عروة أخبره أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته ) هذه الرواية اجتمع فيها أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض : أولهم يحيى بن كثير وهذا من أطرف الطرف .
وأغرب لطائف الإسناد . ولهذا نظائر قليلة في الكتاب وغيره سيمر بك إن شاء الله تعالى ما تيسر منها . وقد جمعت جملة منها في أول شرح صحيح البخاري رحمه الله ، وقد تقدم التنبيه على هذا . وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى : وهو أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر ; فإن أبا سلمة من كبار التابعين ، وعمر بن عبد العزيز من أصاغرهم سنا وطبقة ; وإن كان من كبارهم علما وقدرا ودينا وورعا وزهدا وغير ذلك . واسم أبي سلمة هذا عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف هذا هو المشهور . وقيل : اسمه إسماعيل . وقال عمرو بن علي : لا يعرف اسمه . وقال أحمد بن حنبل : كنيته هي اسمه . حكى هذه الأقوال فيه الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي - رحمه الله - .
وأبو سلمة هذا من أجل التابعين ، ومن أفقههم . وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال فيهم .
وأما ( يحيى بن أبي كثير ) فتابعي صغير ، كنيته أبو نصر ، رأى أنس بن مالك ، وسمع السائب بن يزيد ، وكان جليل القدر . واسم أبي كثير صالح ، وقيل : سيار وقيل : نشيط ، وقيل : دينار .
قوله : ( لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله ) هو بقاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت أي مقتضاه .
قوله : ( إذا كان ممن عرف بالتدليس ) قد قدمنا بيان التدليس في الفصول السابقة فلا حاجة إلى إعادته .
قوله : ( فما ابتغي ذلك من غير مدلس ) هكذا وقع في أكثر الأصول ( فما ابتغي ) بضم التاء وكسر الغين على ما لم يسم فاعله . وفي بعضها : ( ابتغى ) بفتح التاء والغين وفي بعض الأصول المحققة : ( فمن ابتغى ) ولكل واحد وجه .
- ص 116 - قوله : ( فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري وعن كل واحد منهما حديثا يسنده ) أما حديثه عن أبي مسعود : فهو حديث نفقة الرجل على أهله ، وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
وأما حديثه عن حذيفة : فقوله : أخبرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن الحديث أخرجه مسلم .
وأما ( أبو مسعود ) فاسمه عقبة بن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري ، قال الجمهور : سكن بدرا ولم يشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الزهري ، والحكم ، ومحمد بن إسحاق التابعيون ، والبخاري : شهدها .
وأما قوله : ( وعن كل واحد ) فكذا هو في الأصول ( وعن ) بالواو والوجه حذفها فإنها تغير المعنى .
قوله : ( وهي في زعم من حكينا قوله واهية ) هو بفتح الزاي وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورة . ولو قال : ضعيفة بدل واهية لكان أحسن ; فإن هذا القائل لا يدعي أنها واهية شديدة الضعف متناهية فيه ، كما هو معنى واهية ، بل يقتصر على أنها ضعيفة لا تقوم بها الحجة .
- ص 117 - قوله : ( وهذا أبو عثمان النهدي ، وأبو رافع الصائغ ، وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا ، ونقلا عنهما الأخبار ، حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما ، قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما ( أبو عثمان النهدي ) فاسمه عبد الرحمن بن مل وتقدم بيانه .
وأما ( أبو رافع ) : فاسمه نفيع المدني ، قال ثابت : لما أعتق أبو رافع بكى ، فقيل له : ما يبكيك ، فقال : كان لي أجران فذهب أحدهما .
وأما قوله : ( أدرك الجاهلية ) فمعناه : كانا رجلين قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والجاهلية ما قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سموا بذلك لكثرة جهالاتهم .
وقوله : ( من البدريين هلم جرا ) قال القاضي عياض : ليس هذا موضع استعمال ( هلم جرا ) لأنها إنما تستعمل فيما اتصل إلى زمان المتكلم بها ، وإنما أراد مسلم فمن بعدهم من الصحابة .
وقوله : ( جرا ) منون قال صاحب المطالع : قال ابن الأنباري : معنى هلم جرا سيروا وتمهلوا في سيركم وتثبتوا ، وهو من الجر ، وهو ترك النعم في سيرها ، فيستعمل فيما دووم عليه من الأعمال . قال ابن الأنباري : فانتصب ( جرا ) على المصدر ، أي : جروا جرا ، أو على الحال أو على التمييز .
وقوله : ( وذويهما ) فيه إضافة ذي إلى غير الأجناس والمعروف عند أهل العربية أنها لا تستعمل إلا مضافة إلى الأجناس كذي مال .
وقد جاء في الحديث وغيره من كلام العرب إضافة أحرف منها إلى المفردات كما في الحديث " وتصل ذا رحمك " وكقولهم : ذو يزن ، وذو نواس ، وأشباهها . قالوا : هذا كله مقدر فيه الانفصال ; فتقدير ذي رحمك : الذي له معك رحم .
وأما حديث أبي عثمان عن أبي فقوله : كان رجل لا أعلم أحدا أبعد بيتا من المسجد منه الحديث . وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعطاك الله ما احتسبت " خرجه مسلم .
وأما حديث أبي رافع عنه فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأخر فسافر عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوما ، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم ، ورواه جماعات من أصحاب المسانيد .
قوله : ( وأسند أبو عمرو الشيباني وأبو معمر عبد الله بن سخبرة كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين )
أما ( أبو عمرو الشيباني ) : فاسمه سعد بن إياس تقدم ذكره .
وأما ( سخبرة ) : فبسين مهملة مفتوحة ثم خاء معجمة ساكنة ثم موحدة مفتوحة .
وأما الحديثان اللذان رواهما الشيباني : فأحدهما حديث جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه أبدع بي والآخر جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة " أخرجهما مسلم ، وأسند أبو عمرو الشيباني أيضا عن أبي مسعود حديث " المستشار مؤتمن " رواه ابن ماجه ، وعبد بن حميد في مسنده .
وأما حديثا - ص 118 - أبي معمر فأحدهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة أخرجه مسلم . والآخر " لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع " رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . والله أعلم .
قال مسلم - رحمه الله - : ( وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قولها لما مات أبو سلمة قلت : غريب وفي أرض غربة بكاء يتحدث عنه أخرجه مسلم . واسم أم سلمة هند بنت أبي أمية ، واسمه حذيفة ، وقيل : سهيل بن المغيرة المخزومية ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث ، وقيل : اسمها رملة ، وليس بشيء .
قوله : ( وأسند قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود ثلاثة أخبار ) هي حديث " إن الإيمان هاهنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين " وحديث " إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد " وحديث لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان . أخرجها كلها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، واسم أبي حازم عبد عوف ، وقيل : عوف بن عبد الحارث البجلي صحابي .
قوله : ( وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو قوله أمر أبو طلحة أم سليم اصنعي طعاما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم وقد تقدم اسم أبي ليلى ، وبيان الاختلاف فيه وبيان ابنه وابن ابنه .
قوله : ( وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين وعن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثاه عن عمران ; فأحدهما : في إسلام حصين والد عمران وفيه قوله كان عبد المطلب خيرا لقومك منك رواه عبد بن حميد في مسنده والنسائي في كتابه عمل اليوم والليلة بإسناديهما الصحيحين . والحديث الآخر " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله " رواه النسائي في سننه .
وأما حديثه عن أبي بكرة فهو " إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم " أخرجه مسلم وأشار إليه البخاري واسم أبي بكرة : نفيع بن الحارث بن كلدة بفتح الكاف واللام الثقفي . كني بأبي بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببكرة . وكان أبو بكرة ممن اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أحد من الفريقين .
وأما ( ربعي ) بكسر الراء ( وحراش ) بالحاء المهملة فتقدم بيانهما .
- ص 119 - قوله : ( وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) أما حديثه فهو حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " أخرجه مسلم في كتاب الإيمان هكذا من رواية نافع بن جبير ، وقد أخرجه البخاري ومسلم أيضا من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري .
وأما ( أبو شريح ) فاسمه : خويلد بن عمرو ، وقيل : عبد الرحمن وقيل : عمرو بن خويلد ، وقيل : هانئ بن عمرو ، وقيل : كعب . ويقال فيه : أبو شريح الخزاعي والعدوي والكعبي .
قوله : ( وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ثلاثة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أما الحديث الأول : فمن صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفا
والثاني إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها أخرجهما معا البخاري ومسلم .
والثالث : إن أدنى أهل الجنة منزلة من صرف الله وجهه الحديث أخرجه مسلم .
وأما ( أبو سعيد الخدري ) فاسمه سعد بن مالك بن سنان ، منسوب إلى خدرة بن عوف بن الحرث بن الخزرج . توفي أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وستين ، وقيل : سنة أربع وسبعين ، وهو ابن أربع وسبعين .
وأما ( أبو عياش ) والد النعمان : فبالشين المعجمة . واسمه زيد بن الصامت ، وقيل : زيد بن النعمان ، وقيل : عبيد بن معاوية بن الصامت ، وقيل : عبد الرحمن .
قوله : ( وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث " الدين النصيحة " . وأما تميم الداري فكذا هو في مسلم ، واختلف فيه رواة الموطأ ففي رواية يحيى وابن بكير وغيرهما ( الديري ) بالياء ، وفي رواية القعنبي وابن القاسم وأكثرهم ( الداري ) بالألف ، واختلف العلماء في أنه إلى ما نسب ; فقال الجمهور : إلى جد من أجداده ، وهو الدار بن هانئ فإنه تميم بن أوس ابن خارجة بن سور بضم السين بن جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة بن ذراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم وهو مالك بن عدي .
وأما من قال : الديري فهو نسبة إلى دير كان تميم فيه قبل الإسلام وكان نصرانيا ، هكذا رواه أبو الحسن الرازي في كتابه مناقب الشافعي بإسناده الصحيح عن الشافعي أنه قال في النسبتين : ما ذكرناه . وعلى هذا أكثر العلماء . ومنهم من قال الداري بالألف إلى دارين وهو مكان عند البحرين وهو محط السفن ، كان يجلب إليه العطر من الهند ، ولذلك قيل للعطار داري . ومنهم من جعله بالياء نسبة إلى قبيلة أيضا . وهو بعيد شاذ . حكاه والذي قبله صاحب المطالع ، قال وصوب بعضهم الديري قلت : وكلاهما صواب ، فنسب إلى القبيلة بالألف وإلى الدير بالياء ; لاجتماع الوصفين فيه . قال صاحب المطالع : وليس في الصحيحين والموطأ داري ولا ديري ديري إلا تميم . وكنية تميم أبو رقية ، أسلم - ص 120 - سنة تسع وكان بالمدينة ، ثم انتقل إلى الشام فنزل ببيت المقدس ، وقد روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة الجساسة ، وهذه منقبة شريفة لتميم - مناقب الصحابة - ، ويدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر . والله أعلم .
قوله : ( وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ) هو حديث المحاقلة أخرجه مسلم .
قوله : ( وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ) من هذه الأحاديث " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " أخرجه مسلم منفردا به عن البخاري قال أبو عبد الله الحميدي - رحمه الله - في آخر مسند أبي هريرة من الجمع بين الصحيحين : ليس لحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة في الصحيح غير هذا الحديث قال : وليس له عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة شيء . وهذا الذي قاله الحميدي صحيح . وربما اشتبه حميد بن عبد الرحمن الحميري هذا بحميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الراوي عن أبي هريرة أيضا . وقد رويا له في الصحيحين عن أبي هريرة أحاديث كثيرة ; فقد يقف من لا خبرة له على شيء منهما فينكر قول الحميدي توهما منه أن حميدا هذا هو ذاك وهو خطأ صريح ، وجهل قبيح ، وليس للحميري عن أبي هريرة أيضا في الكتب الثلاثة التي هي تمام أصول الإسلام الخمسة أعني : سنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي غير هذا الحديث .
قوله : ( كلاما خلفا ) بإسكان اللام وهو الساقط الفاسد .
قوله : ( وعليه التكلان ) هو بضم التاء وإسكان الكاف أي الاتكال . والله أعلم بالصواب . ولله الحمد والنعمة ، والفضل والمنة ، وبه التوفيق والعصمة .
- ص 121 - [ ( باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى )
( وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه ) ]
أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام ، وعمومهما ، وخصوصهما ، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا ؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا ؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه .
وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة .
قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق - رحمه الله - في كتابه معالم السنن : ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة .
فأما الزهري فقال : الإسلام الكلمة ، والإيمان العمل ، واحتج بالآية يعني قوله سبحانه وتعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد . واحتج بقوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين قال الخطابي : وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم ، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين . ورد الآخر منهما على المتقدم ، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين .
قال الخطابي : والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ، ولا يطلق ; وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ، ولا يكون مؤمنا في بعضها . والمؤمن مسلم في جميع - ص 122 - الأحوال ; فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات ، واعتدل القول فيها ، ولم يختلف شيء منها .
وأصل الإيمان : التصديق ، وأصل الإسلام : الاستسلام والانقياد ; فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر ، غير منقاد في الباطن ، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقال الخطابي أيضا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون شعبة في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى ، والاسم يتعلق ببعضها ، كما يتعلق بكلها ، والحقيقة تقتضي جميع شعبه ، وتستوفي جملة أجزائه ; كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء ، والاسم يتعلق ببعضها ، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها . ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : الحياء شعبة من الإيمان . وفيه : إثبات التفاضل في الإيمان ، وتباين المؤمنين في درجاته . هذا آخر كلام الخطابي . وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي - رحمه الله - في حديث سؤال جبريل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام وجوابه ، قال : جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال ، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد ; وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام ; بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا ; يدل عليه قوله - سبحانه وتعالى - إن الدين عند الله الإسلام ورضيت لكم الإسلام دينا و ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل . هذا كلام البغوي .
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي - رحمه الله - في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم : الإيمان في اللغة هو التصديق فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص ; لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى . والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان . وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص . وهو مذهب أهل السنة ، قال : فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا ؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق . هذا آخر كلام صاحب التحرير .
وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري : مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والحجة على زيادته ونقصانه : ما أورده البخاري من الآيات ، يعني قوله عز وجل : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، وقوله تعالى : وزدناهم هدى ، وقوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقوله - ص 123 - تعالى : والذين اهتدوا زادهم وقوله تعالى : ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقوله تعالى : أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وقوله تعالى : فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى : وما زادهم إلا إيمانا وتسليما قال ابن بطال : فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص ، قال : فإن قيل : الإيمان في اللغة التصديق ، فالجواب : أن التصديق يكمل بالطاعات كلها ، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل ، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص ، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان ، ومتى زادت زاد الإيمان كمالا . هذا توسط القول في الإيمان . وأما التصديق بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فلا ينقص ولذلك توقف مالك - رحمه الله - في بعض الروايات عن القول بالنقصان ; إذ لا يجوز نقصان التصديق ; لأنه إذا نقص صار شكا ، وخرج عن اسم الإيمان .
وقال بعضهم : إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب ، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة . قال عبد الرزاق : سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس ، وعبيد الله بن عمر ، والأوزاعي ، ومعمر بن راشد وابن جريج ، وسفيان بن عيينة ، يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعبد الله بن المبارك . فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه ، لا يستحق اسم مؤمن . ولو عرفه ، وعمل ، وجحد بلسانه ، وكذب ما عرف من التوحيد ، لا يستحق اسم مؤمن ، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ولم يعمل بالفرائض ، لا يسمى مؤمنا بالإطلاق وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى ; لقوله عز وجل : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا فأخبرنا سبحانه وتعالى : أن المؤمن من كانت هذه صفته .
وقال ابن بطال في باب من قال الإيمان هو العمل : فإن قيل : قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق قيل : التصديق هو أول منازل الإيمان ، ويوجب للمصدق الدخول فيه ، ولا يوجب له استكمال منازله ، ولا يسمى مؤمنا مطلقا . هذا مذهب جماعة أهل السنة : أن الإيمان قول وعمل .
قال أبو عبيد : وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم .
قال ابن بطال : وهذا المعنى أراد البخاري - رحمه الله - إثباته في - ص 124 - كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها . فقال : باب أمور الإيمان ، وباب الصلاة من الإيمان ، وباب الزكاة من الإيمان ، وباب الجهاد من الإيمان ، وسائر أبوابه ، وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم : إن الإيمان قول بلا عمل وتبيين غلطهم ، وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة ثم قال ابن بطال في باب آخر : قال المهلب : الإسلام على الحقيقة هو الإيمان الذي هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره .
وقالت الكرامية وبعض المرجئة : الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب ، ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين ، قال الله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله . . . إلى قوله تعالى : وتزهق أنفسهم وهم كافرون هذا آخر كلام ابن بطال .
وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام - تعريفه - : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، والإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : هذا بيان لأصل الإيمان ، وهو التصديق الباطن ، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر ، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين ، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة ، والحج ، والصوم ، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله ، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لأنها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ، ومقويات ومتممات وحافظات له ، ولهذا فسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم . ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة ، أو بدل فريضة ، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد ; ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ، ويتناول أصل الطاعات ; فإن ذلك كله استسلام . قال : فخرج مما ذكرناه وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان ، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . قال : وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون . وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ، فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف ، وأئمة الخلف ، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص . وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين .
وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه ، وقالوا : متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا قال المحققون من أصحابنا المتكلمين : نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص . والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ، وهي الأعمال ونقصانها قالوا : وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف ، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون ، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر - والله أعلم - أن نفس - ص 125 - التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض ، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال . وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن إنكاره .
ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لا يساويه تصديق آحاد الناس ; ولهذا قال البخاري في صحيحه : قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل . والله أعلم .
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق . ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر . قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم أجمعوا على أن المراد صلاتكم .
وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات والله أعلم .
واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ، ونطق بالشهادتين ، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا إلا إذا عجز عن النطق - بالشهادتين - لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا . أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلا بأن يتبرأ ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا ، وليس بشيء : أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلا الله ، ولم يقل : محمد رسول الله : فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما . ومن أصحابنا من قال : يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى ، فإن أبى جعل مرتدا . ويحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين ، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم .
أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا ، فمن جعله مسلما قال : كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما . أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلما ؟ فيه وجهان لأصحابنا : الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الإقرار ، وهذا الوجه هو الحق ولا يظهر للآخر وجه وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم .
واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله : ( أنا مؤمن ) فقالت طائفة : لا يقول أنا مؤمن مقتصرا عليه بل يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين ، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق وأنه لا يقول : ( إن شاء الله ) . وهذا هو المختار ، وقول - ص 126 - أهل التحقيق . وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين . والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال ، ومن قال : إن شاء الله فقالوا فيه : هو إما للتبرك ، وإما لاعتبار العاقبة وما قدر الله تعالى ; فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه ، والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا ، منهم من قال : يقال : هو كافر ، ولا يقول إن شاء الله ، ومنهم من قال : هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم فيقال على قول التقييد : هو كافر إن شاء الله نظرا إلى الخاتمة وأنها مجهولة ، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم .
واعلم أن مذهب أهل الحق : أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع ، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك ; فإن استمر حكم بكفره ، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة . فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه ولكثرة تكررها وتردادها في الأحاديث ، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها والله أعلم بالصواب . وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة .
قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه : ( حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث ) اعلم أن مسلما - رحمه الله - سلك في هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام في نهاية من الحسن مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه ، وذلك يظهر في الإسناد تارة وفي المتن تارة وفيهما تارة ، فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه ، وينشرح لها صدره ، وتنشطه للاشتغال بهذا العلم . واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد . وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني ، فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد ، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك ، ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى . فإذا تقرر ما قلته ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته ، فمن ذلك أنه قال أولا : حدثني